كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَذَكَرَ تَغْلِيظَ الدِّيَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَقَالَ: «الدِّيَةُ فِي هَذَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَلِكَ الْجِرَاحُ، وَكَذَلِكَ التَّغْلِيظُ فِي النَّفْسِ وَالْجِرَاحُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَذَوِي الرَّحِمِ» وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَضَى فِي دِيَةِ امْرَأَةٍ قُتِلَتْ بِمَكَّةَ بِدِيَةٍ وَثُلُثٍ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَجُلًا أُصِيبَ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَسَأَلَ عُمَرُ عَلِيًّا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «دِيَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ» فَلَمْ يَرَ فِيهِ عَلِيٌّ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ عُمَرُ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَرَمِ كَهِيَ فِي الْحِلِّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ كَذَلِكَ؛ إذْ الدِّيَةُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْحَرَمِ وَلَا بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ إنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ كَانَ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ تَأْثِيرٌ فِي إلْزَامِ الْغُرْمِ لَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: «الدِّيَةُ فِي الْحَرَمِ كَهِيَ فِي غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ».
وَرُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ مَنْ قُتِلَ فِي الْحَرَمِ زِيدَ عَلَى دِيَتِهِ مِثْلُ ثُلُثِهَا» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ:
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: «الدِّيَةُ مِنْ الْإِبِلِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَمِنْ الدَّرَاهِمِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ».
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الدِّيَةَ إلَّا مِنْ الْإِبِلِ وَالْوَرِقِ وَالذَّهَبِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: «مِنْ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَمِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ».
وَقَالَ مَالِكٌ: «أَهْلُ الذَّهَبِ أَهْلُ الشَّامِّ وَمِصْرَ، وَأَهْلُ الْوَرِقِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَهْلُ الْإِبِلِ أَهْلُ الْبَوَادِي».
وَقَالَ مَالِكٌ: «وَلَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ إلَّا الْإِبِلُ وَمِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ إلَّا الذَّهَبُ وَمِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ إلَّا الْوَرِقُ».
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: «الدِّيَةُ مِنْ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافٍ وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةُ بَعِيرٍ وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَا شَاةٍ وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ يَمَانِيَّةٍ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فِي الدِّيَةِ إلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ الْحُلَلِ إلَّا الْيَمَانِيَّةُ قِيمَةُ كُلِّ حُلَّةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا».
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الشُّعَبِيِّ عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عُمَرَ: «أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ وَعَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الدِّيَةُ قِيمَةُ النَّفْسِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ لَهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَأَنَّهَا غَيْرُ مَوْكُولَةٍ إلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَمُهُورِ الْمِثْلِ وَنَحْوِهِمَا؛ وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى إثْبَاتِ عَشَرَةِ آلَافٍ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ، فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ.
وَقَدْ رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَوَّمَ الْإِبِلَ فِي الدِّيَةِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، قَوَّمَ كُلَّ بَعِيرٍ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِي الدِّيَةِ عَشْرَةُ آلَافٍ.
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَنْ رَوَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا عَلَى أَنَّهَا وَزْنُ سِتَّةٍ فَتَكُونُ عَشَرَةَ آلَافٍ وَزْنِ سَبْعَةٍ.
وَذَكَرَ الْحَسَنُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنْ الْوَرِقِ قِيمَةَ الْإِبِلِ لَا أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنْ الْوَرِقِ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّيَةُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا» وَبِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَرَوَى نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَالشُّعَبِيُّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ.
قِيلَ لَهُ: أَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنَ عَبَّاسٍ؛ وَيُقَالُ إنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ غَلِطَ فِي وَصْلِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَزْنُ سِتَّةٍ، وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ بِالِاحْتِمَالِ وَيَثْبُتُ عَشَرَةُ آلَافٍ بِالِاتِّفَاقِ.
وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَدْ جَعَلَ فِي الشَّرْعِ كُلَّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قِيمَةً لِدِينَارٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّكَاةَ فِي عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَجُعِلَتْ مِائَتَا الدِّرْهَمِ نِصَابًا بِإِزَاءِ الْعِشْرِينَ دِينَارًا؟ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ بِإِزَاءِ كُلِّ دِينَارٍ مِنْ الدِّيَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّيَةَ مِنْ غَيْرِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا كَانَتْ قِيمَةَ النَّفْسِ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تَكُونَ إلَّا مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ كَقِيَمِ سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيمَتَهَا مِنْ الْإِبِلِ اتَّبَعَ الْأَثَرَ فِيهَا وَلَمْ يُوجِبْهَا مِنْ غَيْرِهَا؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ دِيَاتِ أَهْلِ الْكُفْرِ:
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ وَزَفَرُ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ دِيَةُ الْكَافِرِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَالْمُعَاهَدِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ«.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِيَاتُ نِسَائِهِمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ»
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانمِائَةِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى النِّصْفِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلَى مُسَاوَاتِهِمْ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّيَاتِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} إلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} وَالدِّيَةُ اسْمٌ لَمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْمَالِ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الدِّيَاتِ قَدْ كَانَتْ مُتَعَالِمَةً مَعْرُوفَةً بَيْنَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، فَرَجَعَ الْكَلَامُ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً ثُمَّ لَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} كَانَتْ هَذِهِ الدِّيَةُ هِيَ الدِّيَةُ الْمَذْكُورَةُ بَدِيًّا؛ إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ دِيَةً؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ.
وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَعْرِفُونَ مَقَادِيرَ الدِّيَاتِ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ الْمَذْكُورَةُ لِلْكَافِرِ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُسْلِمِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} رَاجِعًا إلَيْهَا، كَمَا عَقَلَ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ أَنَّهَا الْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، كَمَا أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ وَلَا يُخْرِجُهَا ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكُونَ دِيَةً كَامِلَةً لَهَا.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ الرَّجُلَ فِي الْآيَةِ فَقَالَ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ}، فَكَمَا اقْتَضَى فِيمَا ذَكَرَهُ لِلْمُسْلِمِ كَمَالَ الدِّيَةِ كَذَلِكَ دِيَةُ الْمُعَاهَدِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي اللَّفْظِ مَعَ وُجُودِ التَّعَارُفِ عِنْدَهُمْ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الدِّيَةِ وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ مُقَيَّدًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ دِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَإِطْلَاقُ اسْمِ الدِّيَةِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ كَمَالُهَا؟.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ الْمُؤْمِنُ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ؛ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْإِيمَانِ لِلْقَتِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ عَنْ إعَادَتِهِ فِي الْقَتِيلِ الثَّالِثِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ ذِكْرُ الْقَتِيلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً وَحُكْمُهُ، وَذَلِكَ عُمُومٌ يَقْتَضِي سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إعَادَةُ ذِكْرِ الْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَعَ شُمُولِ أَوَّلِ الْآيَةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمُؤْمِنَ مِمَّنْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ.
وَالثَّانِي: لَمَّا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ وَجَبَ إجْرَاؤُهُ فِي الْجَمِيعِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَاهَدِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُعَاهَدًا مِثْلَهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: «إنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ» يُفِيدُ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ مِثْلُهُمْ؟ وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعَاهَدًا مِثْلَهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ بَيَانَ حُكْمِ الْمُؤْمِنِ إذَا كَانَ مِنْ ذَوِي أَنْسَابِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَقَيَّدَهُ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ؟ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهُ لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّهُ كَافِرٌ مِثْلُهُمْ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ لَمَا كَانَتْ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ كُفَّارٌ لَا يَرِثُونَهُ.
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَفَسَادَ هَذَا التَّأْوِيلِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَيْضًا مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: «كَانَ إذَا قَتَلَ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَتِيلًا أَدُّوا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِذَا قَتَلَ بَنُو قُرَيْظَةَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ أَدُّوا الدِّيَةَ إلَيْهِمْ، قَالَ: فَسَوَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فِي الدِّيَةِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا قَالَ: «أَدُّوا الدِّيَةَ» ثُمَّ قَالَ: «سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الدِّيَةِ» دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الدِّيَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَدَّ بَنِي النَّضِيرِ إلَى نِصْفِهَا لَقَالَ: سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي نِصْفِ الدِّيَةِ، وَلَمْ يَقُلْ:
سَوَّى بَيْنَهُمْ فِي الدِّيَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَهُوَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ.
وَرَوَى مِقْسَمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الْعَامِرِيَّيْنِ وَكَانَا مُشْرِكَيْنِ دِيَةَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ».
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْت نَافِعَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ «وَدَى ذِمِّيًّا دِيَةَ مُسْلِمٍ».
وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ يُوجِبَانِ مُسَاوَاةَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ فِي الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَاهُمَا بِمَا فِي الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَةِ دِيَةَ الْمُسْلِمِ.
وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ الدِّيَةِ مُبَيَّنًا فِي الْكِتَابِ، كَانَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارِدًا مَوْرِدَ الْبَيَانِ، وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَرَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ قَالُوا «دِيَةُ الْمُعَاهَدِ دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ».
وَرَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: «كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ يَجْعَلُونَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إذَا كَانُوا مُعَاهَدَيْنِ مِثْلَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ».
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْن أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ أُخْبَرْهُ: أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ السَّمَوْأَلِ يَهُودِيِّ قُتِلَ بِالشَّامِّ، فَجَعَلَ عُمَرُ دِيَتَهُ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالشُّعَبِيِّ.